ما يحبط العمل من الرياء


بيان مايحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط
فنقول فيه إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليهوارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ
فإن ورد بعدالفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعتالإخلاص سالما عن الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لميتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ولميكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه نعم لو تم العمل على الإخلاص من غيرعقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به فهذا مخوف وفي الآثار والأخبارما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقول قرأت البارحة البقرة فقالذلك حظه منها
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له صمت الدهريا رسول الله فقال له ما صمت ولا أفطرت (1) فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هوإشارة إلى كراهة صوم الدهر وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليهوسلم ومن ابن مسعود استدلالا على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده لهلما أن ظهر منه التحدث به إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلا لثواب العمل بلالأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغمنها بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاةويحبط العمل
وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا وكان قد عقد على الإخلاصولكن ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العملوإما أن يكون رياء باعثا على العمل فإن كان باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره
 ومثاله أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليهأو يذكر شيئا نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفامن مذمة الناس فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى الله عليه وسلمالعمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله (2) أي النظرإلى خاتمته
 وروي أنه من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله(3) وللشيخين من حديث جندب من سمع سمعالله به ومن راءى راءى الله به ورواه مسلم من حديث ابن عباس وهذا منزل على الصلاة فيهذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقيدون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة
 وأما إذا كان وراد الرياء بحيث لا يمنعه منقصد الإتمام لأجل الثواب كما لو حضر جماعة في أثناء الصلاة ففرح بحضورهم وعقد الرياءوقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا فهذا رياء قد أثر فيالعمل وانتهض باعثا على الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثوابوصار قصد العبادة مغمورا فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانهاعلى هذا الوجه لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبهاويغمرها
ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظرا إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثوابوإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه ولقد ذهب الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباطفي أمر هو أهون من هذا وقال: إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس يعني سرورا هوكحب المنزلة والجاه قال قد اختلف الناس في هذا :
فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزمالأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته ثم قالولا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلافالناس والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء
 ثم قال فإن قيل قد قال الحسنرحمه الله تعالى إنهما حالتان فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية وقد روي أن رجلا قاللرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليهفيسرني قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية(4) ثم تكلم على الخبر والأثر فقال أما الحسنفإنه أراد بقوله لا يضره أي لا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله ولم يقل إذاعقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصلهإلى ثلاثة أوجه :
أحدها أنه يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنهقبل الفراغ
الثاني أنه أراد أن يسر به للاقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبللا سرورا بسبب حب المحمدة والمنزلة بدليل أنه جعل له به أجرا ولا ذاهب من الأمة إلىأن للسرور بالمحمدة أجرا وغايته أن يعفى عنه فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران
والثالثأنه قال أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم يوقفه على أبيصالح ومنهم من يرفعه فالحكم بالعمومات الواردة في الرياء أولى هذا ما ذكره ولم يقطعبه بل أظهر ميلا إلى الإحباط والأقيس عندنا أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العملبل بقي العمل صادرا عن باعث الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمللأنه لم ينعدم به أصل نيته وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام وأماالأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق وأما ما وردفي الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب منه أماإذا كان ضعيفا بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال ولا ينبغيأن يفسد الصلاة
ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله والخالص مالا يشوبه شيء فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله فيه وقد ذكرنا فيكتاب الإخلاص كلاما أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه فهذا حكم الرياء الطارئ بعدعقد العبادةإما قبل الفراغ أو بعد الفراغ القسم الثالث الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئالصلاة على قصد الرياء فإن استمر عليه سلم فلا خلاف في أنه يقضي ولا يعتد بصلاته وإنندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه :
قالت فرقة لمتنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف وقالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجودوتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريمعن كونه عقدا وقالت فرقة لا يلزم إعادة شيء بل يستغفر الله بقلبه ويتم العبادة علىالإخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عملهوشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل فقالوا إن الصلاةوالركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافرا ولكن اقترن به عارضالرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاتهومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جدا خصوصا من قال يلزمه إعادة الركوع والسجوددون الافتتاح لأن الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة فتفسد الصلاةوكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صح نظرا إلى الآخر فهو أيضا ضعيف لأن الرياء يقدحفي النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح
 فالذي يستقيم على قياس الفقههو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمرلم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رأى الناس تحرمبالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجسا أيضا كان يصلي لأجل الناس فهذه صلاة لا نية فيهاإذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين وههنا لا باعث ولا إجابة فأما إذا كان بحيث لولاالناس أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضا فاجتمع الباعثان فهذاإما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم أو في عقد صلاة وحج فإن كان فيصدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب فمن يعمل مثقال ذرة خيرايره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسدولا يحبط أحدهما الآخر
 وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إماأن تكون فرضا أو نفلا فإن كانت نفلا فحكمها أيضا حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع منوجه إذ اجتمع في قلبه الباعثان ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتىإن من صلى التراويح وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة ولولا اجتماعالناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جدابل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضا بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداءبه وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحدلا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لأن الإيجاب لم ينتهضباعثا في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدىالفرائض ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعا لأجل الرياء فهذا محل النظر وهو محتملجدا
فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم يؤد الواجب الخالص ويحتمل أنيقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد فاقتران غيره به لا يمنع سقوطالفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصيا بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبةفإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصلالصلاة أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلا دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاةفي أول الوقت لحضور جماعة ولو خلا لأخر إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاةلأجل الرياء فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنهاصلاة لم يعارضه غيره بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية هذا في رياءيكون باعثا على العمل وحاملا عليه وأما مجرد السرور بإطلاع الناس عليه إذا لم يبلغأثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة فهذا ما نراه لائقا بقانون الفقهوالمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوالم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها بل حملهم الحرصعلى تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد العبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصدفيما نراه والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)حديث قال لرجل قال صمت الدهر قال ما صمت ولا أفطرت أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة قال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر قال لا صام ولا أفطر وللطبراني من حديث أسماء بنت يزيد في أثناء حديث فيه فقال رجل إني صائم قال بعض القوم إنه لا يفطر إنه يصوم كل يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم لا صام ولا أفطر من صام الأبد ولم أجده بلفظ الخطاب
(2)حديث العمل كالوعاء إذا طاب آخره طالب أوله أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ إذا طاب أسفله طاب أعلاه وقد تقدم
(3)حديث من راءى بعمله ساعة حبط عمله الذي كان قبله لم أجده بهذا اللفظ 
(4)حديث أن رجلا قال أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني فقال لك أجران الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية ذكوان عن ابن مسعود ورواه الترمذي وابن حبان من رواية ذكوان عن أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه أعجبه قال له أجر السر والعلانية قال الترمذي غريب وقال إنه روي عن أبي صالح وهو ذكر أنه مرسل 

تعليقات