حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد

                          

عنده من جميع ذلك فقد صار حظا عاجلا في الدنيا ولكنا إذا ذكرناالدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلا بل قلنا إنه من الآخرة وكذلك العابد قديأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قالبعضهم ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل وكان آخر يقول اللهمارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظهالعاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو ولكنا لسنانعني بالدنيا المذمومة ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم حبب إلي من دنياكم ثلاثالنساء والطيب وقرة عيني في الصلاة حديث حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساءوقرة عيني في الصلاة أخرجه النسائي والحاكم من حديث أنس دون قوله ثلاث وتقدم فيالنكاح فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهومن عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكونفي الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومةفنقول هذه ليست من الدنيا.
وهو المقابل لهعلى الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلا كالتلذذ بالمعاصيكلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات والضرورات الداخلة في جملةالرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومةوالأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثيابولذائذ الأطعمة فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولا أوفى محلالحاجة نظر طويل إذ روى عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذكنيفا أنفق عليه درهمين فكتب إليه عمر من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمرقد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابهافإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك فلم يزل بها حتى مات فهذا رآه فضولامن الدنيا فتأمل فيه القسم الثالث وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين علىأعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن وكل ما لا بد منه لبتأتيللإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل وهذا ليس من الدنيا كالقسمالأول لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه فمهما تناوله العبد على قصدالاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولا للدنيا ولم يصر به من أبناءالدنيا وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثانيوصار من جملة الدنيا ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات صفاء القلب أعنيطهارته من الأدناس وأنسه بذكر الله تعالى وحبه لله عز وجل وصفاء القلب وطهارته لايحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالىوالمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكروهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت أما طهارة القلب عن شهواتالدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بن العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبارإن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنهوإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه حديث مناضلة أعمال العبد عنه فإذا جاءالعذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل فدفع عنه الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبدالرحمن بن سمرة بطوله وفيه خالد بن عبد الرحمن المخزومي ضعفه البخاري وأبو حاتمولأحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحزبه عملهالصلاة والصيام الحديث وإسناده صحيح الحديث وأما الأنس والحب فهما من المسعداتوهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أنيدخل أوان الرؤية في الجنة فيصير القبر روضة من رياض الجنة وكيف لا يكون القبرعليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد وكانت العوائق تعوقه عن دوامالأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبينمحبوبه فقدم عليه مسرورا سليما من الموانع آمنا من العوائق وكيف لا يكون محبالدنيا عند الموت معذبا ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينهوسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه ولذلك قيل ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلكالواحد وليس الموت عدما إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى فإذا سالكطريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذييفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدنوصحة البدن لا تنال إلا بقوت وملبس ومسكن ويحتاج كل واحد إلى أسباب فالقدر الذي لابد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنياوكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار منأبناء الدنيا والراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرضصاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراما وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضهلطول الحساب ويسمى ذلك حلالا والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجلالمحاسبة أيضا عذاب فمن نوقش الحساب عذب حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه منحديث عائشة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالها حساب وحرامها عذاب حديثحلالها حساب وحرامها عذاب أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب من طريقه موقوفاعلى علي بن أبي طالب بإسناد منقطع بلفظ وحرامها النار ولم أجده مرفوعا وقد قال أيضاحلالها عذاب إلا إنه عذاب أخف من عذاب الحرام بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت منالدرجات العلا في الجنة وما يرد على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسةلا بقاء لها هو أيضا عذاب وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوكبسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاءلها منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتهاوتنقطع الدهور دون غايتها فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظرإلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه وهو المعنى بقوله صلىالله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه هذا من النعيم الذي تسئل عنه حديث هذا من النعيمالذي تسئل عنه تقدم في الأطعمة أشار به إلى الماء البارد والتعرض لجواب السؤال فيهذل وخوف وخطر ومشقة وانتظار وكل ذلك من نقصان الحظ ولذلك قال عمر رضي الله عنهاعزلوا عني حسابها حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنععن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى اللهفإن ذلك القدر ليس من الدنيا وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيمالدنيا أشد حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه إذ تمثل لهإبليس وقال رغبت في الدنيا وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذالأطعمة وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهانا وشدة فإن الصبرعلى لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوىالدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياما حديث زوى الله الدنيا عننبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياما أخرجه محمد بن خفيف في شرف الفقراء منحديث عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله عجبا لمن بسط الله لهم الدنيا وزواها عنكالحديث وهو من طريق إسحاق معنعنا وللترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلىالله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله الحديث قال الترمذي حسنصحيح وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع حديث كان يشد الحجر على بطنه من الجوع تقدمولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظرالهم وامتنانا عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذةالفواكه ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحبا له لا بخلا عليه وقد عرفت بهذاأن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا فإن قلت فما الذيهو لله فأقول الأشياء ثلاثة أقسام منها مالا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنهبالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات وهي الدنيا المحضة المذمومة فهيالدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة الفكروالذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سرا ولم يكن عليها باعث سوى أمرالله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا وإن كان الغرض من الفكر طلب العلمللتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظالمال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإنكان يظن بصورته أنه لله تعالى ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه للهوذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده فإن كان القصد حظ النفس فهومن الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورتهصورة الدنيا قال صلى الله عليه وسلم من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي اللهوهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافا عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجههكالقمر ليلة البدر حديث من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبانالحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بسند ضعيففانظر كيف اختلف ذلك بالقصد فإذا الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمرالآخرة ويعبر عنه بالهوى وإليه الإشارة بقوله تعالى ونهى النفس عن الهوى فإن الجنةهي المأوى ومجامع الهوى خمسة أمور وهي ما جمعه الله تعالى في قوله إنما الحياة الدنيالعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد والأعيان التي تحصل منها هذهالخمسة سبعة يجمعها قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرةمن الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا فقد عرفتأن كل ما هو لله فليس من الدنيا وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هولله إن قصد به وجه الله والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله وبين التنعم والضرورة درجةيعبر عنها بالحاجة ولها طرفان وواسطة طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصارعلى حد الضرورة غير ممكن وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منهوبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه والحزم في الحذر والتقوىوالتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام إذا كانوايردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرني كان يظن أهله أنه مجنون لشدةتضييقه على نفسه فبنوا له بيتا على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتانوالثلاث لا يرون له وجها وكان يخرج أول الأذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرةوكان طعامه أن يلتقط النوى وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته منالحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطعالأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها فكان ذلك لباسه وكانربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون فيقول لهم يا إخوتاه إن كنتم ولا بد أنترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي فيحضر وقت الصلاة ولا أصيبالماء فهكذا كانت سيرته ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال إني لأجدنفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمنأشار به إلى أويس القرني تقدم في قواعد العقائد لم أجد له أصلا ولما ولي الخلافةعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال أيها الناس من كان منكم من العراق فليقمقالوا فقاموا فقال اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة فجلسوا فقال اجلسوا إلا من كانمن مراد فجلسوا فقال اجلسوا إلا من كان من قرن فجلسوا كلهم إلا رجلا واحدا فقال لهعمر أقرني أنت فقال نعم فقال أتعرف أويس بن عامر القرني فوصفه له فقال نعم وما ذاكتسأل عنه يا أمير المؤمنين والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولاأدنى منه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسولالله صلى الله عليه وسلم يقول يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر حديث عمر يدخل الجنةفي شفاعته مثل ربيعة ومضر يريد أويسا ورويناه في جزء ابن السماء من حديث أبي أمامةيدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر وإسناده حسن وليس فيه ذكر لأويسبل في آخره فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان فقال هرم بن حيان لماسمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا أن أطلب أويساالقرني وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالسا على شاطيء الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسلثوبه فعرفته بالنعت الذي نعت لي فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحيةمتغير جدا كريه الوجه متهيب المنظر قال فسلمت عليه فرد علي السلام ونظر إلي فقلتحياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني فقلت رحمك الله يا أويس وغفرلك كيف أنت رحمك الله ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله مارأيت حتى بكيت وبكى فقال وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك عليقال قلت الله فقال لا إله إلا الله سبحان الله إن كان وعد ربنا لمفعولا قال فعجبتحين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني فقلت من أين عرفت اسمي واسم أبيوما رأيتك قبل اليوم قال نبأني العليم الخبير وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسكإن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضا ويتحابون بروحالله وإن لم يلتقوا يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل قالقلت حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك قال إني لمأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله ولكنرأيت رجالا قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذاالباب أن أكون محدثا أو مفتيا أو قاضيا في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان فقلتيا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنكفإني أحبك في الله حبا شديدا قال فقام وأخذ بيدي على شاطيء الفرات ثم قال أعوذبالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم بكى ثم قال قال ربي والحق قول ربي وأصدقالحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه ثم قرأ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهمالاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون حتى انتهى إلى قوله إنه هوالعزيز الرحيم فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال يا ابن حيان مات أبوك حيانوتوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوحومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجي الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد صلىالله عليه وسلم وهو رسول رب العالمين ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بنالخطاب أخي وصفي ثم قال يا عمراه يا عمراه قال فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت قالفقد نعاه إلي ربي ونعى إلي نفسي ثم قال أنا وأنت في الموت كأنه قد كان ثم صلى علىالنبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا بدعوات خفيات ثم قال هذه وصيتي إياك يا هرم بنحيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلي نفسي ونفسك عليك بذكر الموتلا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاوإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامةادع لي ولنفسك ثم قال اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجههفي الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضمعليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيرا واجعله لماأعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عنى خير الجزاء ثم قال استودعك الله يا هرم بنحيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإنيأكره الشهرة والوحدة أحب إلي أن كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حيافلا تسأل عني ولا تطلبني واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادعلي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله انطلق أنت ههنا حتى انطلق أنا ههنا فحرصت أنأمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت انظر في قفاه حتى دخل بعضالسكك ثم سألت عنه بعد ذلك فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له فهكذاكانت سيرة أبناء الآخرة المعرضين عن الدنيا وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومنسيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ماكان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذبقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا ويتبين هذا بمثالوهو أن الحاج إذا حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له ثم اشتغلبحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الرواية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولميكن مشغولا بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر فتعهد البدن بماتبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا نعم إذاقصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفا عن الآخرة ويخشى على قلبهالقسوة قال الطنافسي كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاويا فسمعتفي الليلة الثامنة مناديا وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاجإليه أعمى الله عين قلبه فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك فاعلم ذلك ترشد إن شاءالله تعالى

تعليقات