رواية مسلم المطبوعة وفيها لفظ "أين الله"على معنى السؤال عن المكانة وعلو الشرف لا عن المكان

                                  

الحمدلله،أما رواية مسلم المطبوعة وفيها لفظ "أين الله"على معنى السؤال عن المكانة وعلو الشرف لا عن المكان والحيز والجهة، لأن علوالمكان لا يلزم منه علو الرتبة، والعرب تعرف العلو بمعنى الاستعلاء والقهر كما فيالذكر الحكيم قال الله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَأَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْوَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ" (سورة القصص)،فعند من رواه فهو على معنى علو الرتبة والشرف كما قال النووي والقرطبي والمازريوأبو حيان الأندلسي وغيرهم.ثم لو أراد مسلم الاحتجاج برواية ابن ابي ميمونةللفظ "أين الله" في العقائد لذكر تلك الرواية في أول كتابه حين ذكرأحاديث العقائد في كتاب الإيمان، ولم يكن ليؤخرها إلى كتاب المساجد، دلّ ذلك علىأن حديث الجارية لا يرقى إلى ما يحتج به في العقيدة فلا هو متواتر ولا هو مشهور،فمسلم ذكره في بعض الروايات عنه في أبواب فروع الفقه لا الاعتقاد لأنه لا يصلحالاحتجاج به في أصول الدين إذ لو كان يصلح لذلك لقدمه.وهذا يدلّ على أن استعمالكم حديث الجارية أيهاالمشبهة المبتدعة الوهابية النجدية تدعون كذبا أنكم سلفية، في أبواب الاعتقاديدخلكم تحت حديث مسلم نفسه "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"،فأنتم لا وافقتم مسلماً ولا غيره من أئمة العلم بل ابتدعتم الاستدلال بأحاديثالفروع مما لا يرقى إلى صحة أحاديث الأصول في مسائل العقيدة، وهذا لم يفعله مسلمرحمه الله، فانظروا كيف ابتدعتم ما لم ينزل الله به سلطاناً.ثم ما هو موجود في إحدى نسخ صحيح مسلم بن الحجاجالنيسابوري المتوفى سنة 261 هـ. المتداولة من لفظ منسوب إلى النبيّ المكرّم صلىالله عليه وسلم وفيه أنه عليه السلام سأل جارية "أين الله" فأجابت "فيالسماء"، وفي رواية للبيهقي "فأشارت إلى السماء"
وفي رواية له أنهاكانت "أعجمية" خرساء، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لها: من ربك،قالت: الله؛قال الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (458 هـ.) فيسننه: "أخرجه مسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي من دون حديث الجارية"،ومعلوم أن الإمام المجتهد أبا عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (157 هـ.) أعلىقدراً وأوثق حفظاً وفقهاً من مسلم وكلّ أقرانه بل ومن شيخه البخاري وطبقته، فماكان الأوزاعي ليترك تلك الرواية عن معاوية بن الحكم السلمي لولا أنه رأى فيها علةتوجب الإعراض عنها. ومثل الأوزاعي ترك الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ.) تلك الرواية فلم يتعرض لها ولا لمعاوية بن الحكم في صحيحه البتة، وإن يكن ذكرمن حديثه الذي رواه مسلم في كتاب المساجد طرفاً في كتاب خلق أفعال العباد وكرّرذكره ثلاثاً في كتاب القراءة خلف الإمام، ولكن موافقاً رواية الإمام الأوزاعي فيمسلم التي اطلع عليها البيهقي، أي خالية رواياته من أي ذكر لحديث الجارية ولا أيإشارة إلى أن الحديث مقتطع.وقال البيهقي في الأسماء والصفات: "قد أخرجهمسلم مقطعاً من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية،وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه"، فانظر إلى نص البيهقيوهو من كبار الحفاظ على أن نسخة مسلم التي كانت متداولة في وقته بين أهل الحديثكانت خالية من قصة الجارية، ونصه على الاضطراب في لفظها وظنه أن ذلك سبب ترك مسلملها في النسخة التي كانت لديه برواية عالية الإسناد حافظاً عن حافظ.وعلى أي حال فمعلوم أن مسلماً إنما هو أحد تلامذةالبخاري وله كان يقول: "دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثينوطبيب الحديث في علله"، وهذا مشهور عنه، فمن أين تكون إحدى روايات مسلم سالمةمن أيّ طعن ويكفيها أن البخاري والأوزاعي أعرضا عنها، وهما من أعيان علماء الأمةوأعلى بلا شك من مسلم وأقرانه وأكثر علماً بالحديث وعلله.وقد شهد بذلك الاضطراب كبار الحفاظ الذين أحصوا طرقهوعرفوا مخارجه أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي ذكره في تلخيص الحبير برواياتهومنها لفظ "أين الله" (ج3 ص 223) ونص على أن "طرقه مختلفة"،وهو ما أشار إليه البيهقي في سننه وفي كتاب الأسماء والصفات، فلو وجد ابن حجر أنرواية مسلم تعطي جواز نسبة الأين إلى الله تعالى لم ينقل في شرحه على البخاري عنالقرطبي قال "فلا يتوجه على حكمه تعالى لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه فىوجوده أين"، فانظر كيف ينفي علماء الحديث والأثر "الأين" عن اللهتعالى ولو ثبتت تلك اللفظة في الحديث لقالوا بها ولم ينفوها، إذ الراد للحديثالثابت برأيه وهواه من غير برهان ولا حجة على خطر في دينه، وكذا من أثبت لله ما لايجوز عليه مما هو من صفات المخلوقين على خطر في دينه لأنه عابد لغير الله تعالى،نعوذ بالله من كلتا الحالتين.ومن ذلك أخذ بعض أولئك المجسمة بظاهر الحديث المعروفبحديث الجارية في أن الله تعالى عما يقولون في السماء بذاته، ويكفي لمن أراد ردّالاستدلال بظاهره التمسك بحديث مسلم الذي لا بد من اللجوء إلى التأويل للجمع بينهوبين حديث الجارية على فرض ثبوته، أعني حديث "أقربُ ما يكون العبدُ من ربّهوهو ساجدٌ فأكثروا الدعاء" ورواه أيضاً النسائي وأبو داود وأحمد والبيهقي،فكيف يمكن الجمع بين الحديثين لمن يتمسك بظاهرهما.أضف إلى ذلك حديث البخاري وغيره عن أبي هريرة رضيالله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب فيكتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي"، فعلى زعم هؤلاء يكون اللهتعالى مزاحماً لهذا الكتاب الذي نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه فوقالعرش، فيا للعجب من جهل هؤلاء المتمسكين بالظواهر ما بسببه يؤول أمرهم إلى أنيضربوا القرآن بالحديث والعياذ بالله.قال الحافظ ابن حجر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم "فهوعنده فوق العرش"، "والعندية هنا ليست مكانية"، ما يدل على صحيح فهمعلماء السنة والفقه والحديث أن الله تعالى موجود بلا حيز ولا جهة ولا مكان.ثم ماذا يفعل هؤلاء المتعلقون بظواهر الألفاظ يشبهونالله بخلقه، ماذا يفعلون بما في سورة الأعراف عن فرعون أنه قال: "وإنا فوقهمقاهرون" (الآية 127) والشاهد في قول فرعون يدلّ على أن لفظ الفوقية بمعنىالقهر والاستيلاء والغلبة شيء ثابت في اللغة بل وفي الشرع بنص القرآن، فمن ذا الذييظن أن فرعون كان في غرفة يشرف على بني اسرائيل من حيث يكون في مكان فوقهم وهمتحته من حيث الحسّ؟،هذا لا يقول به أحد في حق مخلوق كفرعون، فكيف في حق الخالقالذي له المثل الأعلى سبحانه.وقال القرطبي في تفسيره عند ذكر آية الكرسي (الآية 255)من سورة البقرة: والعلي (أي من أسماء الله تعالى) يراد به علو القدر والمنزلة لاعلو المكان لأن الله منزه عن التحيز. والعليّ والعالي القاهر الغالب للاشياء، تقولالعرب علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره، قال الشاعر: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعىلنسر وكاسرومنه قوله تعالى: "إن فرعون علا في الارض"،والعظيم (من أسمائه عز وجل) صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف لا على معنى عظمالاجرام. اهـ.يريد القرطبي أن الله منزه عن المكان وعن الجسميةوسائر صفات الأجسام لاستحالة ذلك عليه عقلاً وشرعاً سبحانه، وفي كلامه كذلك دليلعلى أن الاستواء يطلق بمعنى القهر والغلبة بلا مغالبة لقوله إن العليّ معناهالقاهر الغالب للأشياء، وهذا من القرآن الكريم قال الله تعالى: "والله غالبعلى أمره" (سورة يوسف، 21). ثم أيها الموحد منزه الله تعالى عن الشبيه والنظيرليس كمثله شيء وهو السميع البصير، إن استدلّ عليك مشبه مجسم يعتقد في الله التحيزوالمكان والجهة بحديث الجارية المضطرب وفيه لفظ "أين الله، قالت في السماء"،تردّه إلى الأصل وهو القران الكريم وفيه قوله تعالى في سورة العلق الآية 19:"كلا لا تطعه واسجد واقترب"، قال الإمام أبو منصور الماتريدي (توفي سنة 330هـ.) وهو من أئمة السلف الصالح في تفسيره ما نصه: "وقوله تعالى "واسجدواقترب" يحتمل أن يكون هذا خطاباً للنبيّ، أي صلّ واقترب إلى الله..، وعلىالتأويل الظاهر الآية حجة لنا على أهل التشبيه، فإنه لم يفهم من قوله واقترب القربمن حيث المكان وقرب الذات، ولكن قرب المنزلة والقدر. وكذلك ما ذكر في بعض الأخبارمن تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ونحو ذلك، لا يفهم منه قرب الذات ولكن قربالمنزلة والقدر بالإجابة، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القرب قرب المنزلةوالقدر. اهـ.وهو كلام الإمام أبي حنيفة (150 هـ.) رضي الله عنهفي الفقه الأكبر قال: "وليس قرب الله تعالى ولا بُعده من طريق طول المسافةوقصرها..، ولكن المطيع قريب منه بلا كيف والعاصي بعيد عنه بلا كيف".وهذا دليل على ان لفظ "أين الله" إن صحّعند من رواه لا يجوز أن يحمل على ظاهره إجماعاً كما قال القاضي عياض والنووي فيشرح مسلم، لأن محكم القرآن يردّ اعتقاد أن الله في السماء بذاته، ومن لم يُجزالتأويل في حديث من أحاديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، كان ذلك دليلاً ضده إذ لايجوز على أصله الفاسد تأويل ما يناقض حديث جارية من ظاهر القرآن الذي هو أعلىوأرفع من حد حديث جارية، وهذا فساد عريض، ويردّه آية محكمة وسنة ثابتة وإجماعمتقدم مأخوذ من القرآن "قل الله خالق كل شىء" والمكان شيء مخلوق لميستثنه الله تعالى، وحديث ثابت في البخاري "كان الله ولم يكن شىء غيره"،وإجماع على نفي المكان عن الله تعالى نقله عن أئمة السلف الإمام أبو جعفر الطحاويفي عقيدته قال "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" فسبحان اللهالعظيم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصيرقال الإمام الشافعىّ المجسم كافر نقله عنه الحافظالسيوطي فى الأشباه والنظائر، والإمام أحمد بن حنبل كفر من قال الله جسم وإن قاللا كالأجسام كذلك كافر نقله عنه الحافظ الزركشي في تشنيف المسامع في أصول الفقه

تعليقات