آداب المحتسب


باب آداب المحتسب
 قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب العلم والورع وحسن الخلق أما العلم فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه والورع ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعا ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض
وليكن كلامه ووعظه مقبولا فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه وأما حسن الخلق فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه والعلم والورع لا يكفيان فيه فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم
 فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات وإن فقدت لم يندفع المنكر بل ربما كانت الحسبة أيضا منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قوله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه حديث لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه الحديث لم أجده هكذا وللبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيها مطلقا بل فيما يأمر به وينهى عنه وكذا الحلم
 قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا كنت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله من ذم شيئا وأتى مثله فإنما يزرى على عقله ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعا بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس
 فقد روي عن أنس رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله فقال صلى الله عليه وسلم بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله حديث أنس قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله فقال صلى الله عليه وسلم بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله أخرجه الطبراني في المعجم الصغير والأوسط وفيه عبد القدوس بن حبيب أجمعوا على تركه
وأوصى بعض السلف بنيه فقال إن إراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر ولذلك قرن الله تعالى الصبر بالأمر بالمعروف فقال حاكيا عن لقمان يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة
 فقد روى عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئا من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكرا فدخل الدار أولا وأخرج السنور ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب لا أعطينك بعد هذا شيئا لسنورك فقال ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني كيف منزلتك بين قومك قال حسنة قال إن التوراة تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال أبو مسلم صدقت التوراة وكذب أبو مسلم ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذا وعظه واعظ وعنف له في القول فقاليا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم فقد روى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله تأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم قربوه ادن فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتحبه لأمك فقال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك قال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك حديث أبي أمامة أن شابا قال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فصاح الناس به الحديث رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد لا جعلني الله فداك وهو صلى الله عليه وسلم يقول كذلك الناس لا يحبونه وقالا جميعا في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه يعني من الزنا وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل ما أخذ منهم إلا دون حقه ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين وقال حماد بن سلمة إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال دعوني أنا أكفيكم فقال يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال وما حاجتك يا عم قال أحب أن ترفع من إزارك فقال نعم وكرامة فرفع إزاره فقال لأصحابه لو أخذتموه بشدة لقال لا ولا كرامة وشتمكم وقال محمد بن زكريا الغلابي شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس تنحوا عن ابن أخي ثم قال إلي يا ابن أخي فاستحى الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه ثم قال له امض معي فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف فقال الغلام قد أمر أن تأتيه فأدخله عليه فقال له أما استحييت لنفسك أما استحييت لشرفك أما ترى من ولدك فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكسا رأسه ثم رفع رأسه وقال عاهدت الله تعالى عهدا يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب فقال ادن مني فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكرا فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون وعن الفتح بن شخرف قال تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره وكان الرجل شديد البدن فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحك كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقا كثيرا ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك فقال ما أدري ولكن حاكني شيخ وقال لي إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل فضعفت لقوله قدماي وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل فقالوا له هو بشر بن الحارث فقال واسوأتاه كيف ينظر إلى بعد اليوم وحم الرجل من يومه ومات يوم السابع فكذا كانت عادة أهل الدين في الحسبة وقد نقلنا فيها آثارا وأخبارا في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه 

تعليقات