بيان أعمال المتوكلين
اعلم أن العلم يورث الحال والحال يثمر الأعمال وقد
يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض
كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام فى الشرع والشرع
قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين بل نكشف
الغطاء عنه ونقول إنما يظهر تأثير التوكل فى حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده وسعى
العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب أو لحفظ نافع هو
موجود عنده كالادخار أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع أو
لإزالة ضار قد نزل به كالتداوى من المرض فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون
الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه أو دفع الضار أو قطعه فلنذكر شروط التوكل ودرجاته
فى كل واحد منها مقرونا بشواهد الشرع الفن الأول فى جلب النافع فنقول فيه الأسباب
التى بها يجلب النافع على ثلاث درجات مقطوع به ومظنون ظنا يوثق به وموهوم وهما لا
تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه الدرجة الأولى المقطوع به وذلك مثل الأسباب
التى ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن
الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول
أنا متوكل وشرط التوكل ترك السعى ومد اليد إليه سعى وحركة وكذلك مضغه بالأسنان
وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك على أسافله فهذا جنون محض وليس من التوكل فى شىء فإنك
إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعا دون الخبز أو يخلق فى الخبز حركة إليك أو
يسخر ملكا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى وكذلك لو لم تزرع
الأرض وطمعت فى أن يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما
ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه أليس
التوكل فى هذا المقام بالعمل بل بالحال والعلم أما العلم فهو أن تعلم أن الله
تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذى يطعمك ويسقيك وأما
الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام
وكيف تعتمد على صحة يدك وربما تجف فى الحال وتفلج وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ
عليك فى الحال ما يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك وكيف تعول على حضور الطعام وربما يسلط
الله تعالى من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك وتفرق بينك وبين طعامك وإذا
احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول
فإذا كان هذا حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل الدرجة الثانية الأسباب التى ليست
متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها وكان احتمال حصولها دونها بعيدا
كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى التى لا يطرقها الناس إلا نادرا
ويكون سفره من غير استصحاب زاد فهذا ليس شرطا فى التوكل بل استصحاب الزاد فى
البوادى سنة الأولين ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى
لا على الزاد كما سبق ولكن فعل ذلك جائز وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان
يفعله الخواص فإن قلت فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس فى التهلكة فاعلم أن ذلك
يخرج عن كونه حراما بشرطين أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على
الصبر عن الطعام أسبوعا وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر فى
ذكر الله تعالى والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء
الخسيسة فبعد هذين الشرطين لا يخلو فى غالب الأمر فى البوادى فى كل أسبوع عن أن
يلقاه آدمى أو ينتهى إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهدا نفسه
والمجاهدة عماد التوكل وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين والدليل
عليه أن الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول هذا لا يقدح
فى التوكل وسببه أنه علم أن البوادى لا يكون الماء فيها على وجه الأرض وما جرت سنة
الله تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو فى
البوادى كما يغلب وجود الحشيش والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه فى كل
يوم أو يومين مرة فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام
وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عورته ولا يوجد المقراض والإبرة فى
البوادى غالبا عند كل صلاة ولا يقوم مقامهما فى الخياطة والقطع شىء مما يوجد فى
البوادى فكل ما فى معنى الأربعة أيضا يلتحق بالدرجة الثانية لأنه مظنون ظنا ليس
مقطوعا به لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوبا أو يجد على رأس البئر
من يسقيه ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغا إلى فيه فبين الدرجتين فرقان ولكن
الثانى فى معنى الأول ولهذا نقول لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا
حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى هلاك نفسه كما روى أن
زاهدا من الزهاد فارق الأمصار وأقام فى سفح جبل سبعا وقال لا أسال أحدا شيئا حتى
فائتني ربى برزقى فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق فقال يا رب إن أحييتنى فأئتنى
برزقى الذى قسمت لى وإلا فاقبضنى إليك فأوحى الله جل ذكره إليه وعزتى لا أرزقنك
حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس فدخل المصر وقعد فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب
فأكل وشرب وأوجس فى نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتى بزهدك
فى الدنيا أما علمت أنى أرزق عبدي بأيدي عبادى أحب إلى من أن أرزقه بيد قدرتى فإذن
التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة
الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه
مثلا فى الوكيل بالخصومة من قبل ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية فمعنى التوكل
الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى
السبب فإن قلت ما قولك فى القعود فى البلد بغير كسب أهو حرام أو مباح أو مندوب
فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة فى البادية إذا لم يكن مهلكا نفسه
فهذا كيف كان لم يكن مهلكا نفسه حتى يكون فعله حراما بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من
حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه والصبر ممكن إلى ان يتفق ولكن لو أغلق باب البيت
على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام وإن فتح باب البيت وهو بطال غير
مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له ولكن ليس فعله حراما إلا أن يشرف على الموت
فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى
الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه بل تطلعه إلى فضل الله تعالى
واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكل وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم
برزقه فإن الرزق يأتيه لا محالة وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء وهو أن العبد لو
هرب من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه
لما استجاب وكان عاصيا ولقال له يا جاهل كيف أخلقك ولا أرزقك ولذلك قال ابن عباس
رضى الله عنهما اختلف الناس فى كل شىء إلا فى الرزق والأجل فإنهم أجمعوا على أن لا
رزاق ولا مميت إلا الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم لو توكلتم على الله حق
توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال حديث
لو توكلتم على الله حق توكله الحديث وزاد فى آخره ولزالت بدعائكم الجبال وقد تقدما
قريبا دون هذه الزيادة فرواها الإمام محمد بن نصر فى كتاب تعظيم قدر الصلاة من
حديث معاذ بن جبل بإسناد فيه لين لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور
ولزالت بدعائكم الجبال ورواه البيهقى فى الزهد من رواية وهيب المكى مرسلا دون قوله
لمشيتم على البحور وقال هذا منقطع وقال عيسى عليه السلام انظروا إلى الطير لا تزرع
ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوما بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا
إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق وقال أبو يعقوب السوسى المتوكلون
تجرى أرزاقهم على أيدى العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون وقال بعضهم
العبيد كلهم فى رزق الله تعالى ولكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال وبعضهم بتعب وانتظار
كالتجار وبعضهم بامتهان كالصناع وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم
من يده ولا يرون الواسطة الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التى يتوهم إفضاؤها إلى المسببات
من غير ثقة ظاهرة كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه
وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها وهو الذى فيه الناس كلهم أعنى من يكتسب
بالحيل الدقيقة اكتسابا مباحا لمال مباح فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة
فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل
وهذا مثل الأسباب التى نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي
بالإضافة إلى إزالة الضار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المتوكلين بذلك ولم
يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئا بل وصفهم بأنهم
يتعاطون هذه الأسباب وأمثال هذه الأسباب التى يوثق بها فى المسببات مما يكثر فلا
يمكن إحصاؤها وقال سهل فى التوكل إنه ترك التدبير وقال إن الله خلق الخلق ولم
يحجبهم عن نفسه وإنما حجابهم بتدبيرهم ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة
بالفكر فهى التى تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية فإذن قد ظهر أن الأسباب
منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل وإلى ما لا يخرج وأن الذى يخرج ينقسم إلى
مقطوع به وإلى مظنون وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه
وهو الاتكال على مسبب الأسباب فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل وأما
المظنونات فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعا والمتوكلون فى ملابسة هذه
الأسباب على ثلاثة مقامات الأول مقام الخواص ونظرائه وهو الذى يدور فى البوادى
بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه فى تقويته على الصبر أسبوعا وما فرقه أو تيسير
حشيش له أو قوت أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شىء من ذلك فإن الذى يحمل
الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعا فذلك ممكن مع الزاد كما أنه يمكن مع
فقده المقام الثانى أن يقعد فى بيته أو فى مسجد ولكنه فى القرى والأمصار وهذا أضعف
من الأول لكنه أيضا متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة معول على فضل الله
تعالى فى تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية ولكنه بالقعود فى الأمصار متعرض لأسباب
الرزق فإن ذلك من الأسباب الجاية إلا أن ذلك لا يبطل توكله إذا كان نظره إلى الذى
يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد إذ يتصور أن يغفل جميعهم
عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم المقام الثالث أن يخرج
ويكتسب اكتسابا على الوجه الذى ذكرناه فى الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب
وهذا السعى لا يخرجه أيضا عن مقامات التوكل إذا لم يكن طمأنينة نفسه إلى كفايته
وقوته وجاهه وبضاعته فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه فى لحظة بل يكون نظره
إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له بل يرى كسبه وبضاعته وكفايته
بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم فى يد الملك الموقع فلا يكون نظره إلى
القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك وإلى ماذا يميل وبم يحكم ثم إن كان هذا
المكتسب مكتسبا لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب وبقلبه عنه منقطع
فحال هذا أشرف من حال القاعد فى بيته والدليل على أن الكسب لا ينافى حال التوكل
إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن الصديق رضى الله عنه
لما بويع بالخلافة أصبح آخذا الأثواب تحت حضنه والذراع بيده ودخل السوق ينادى حتى
كرهه المسلمون وقالوا كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة فقال لا تشغلونى عن
عيالى فإنى إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهلبيت من المسلمين
فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت بمصالح المسلمين أولى
ويستحيل أن يقال لم يكن الصديق فى مقام التوكل فمن أولى بهذا المقام منه فدل على
أنه كان متوكلا لا باعتبار ترك الكسب والسعى بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته
وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط كان يراعيها فى طريق
الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار ومن غير أن يكون درهمه
أحب إليه من درهم غيره فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من درهم غيره فهو حريص على
الدنيا ومحب لها ولا يصح التوكل إلا مع الزهد فى الدنيا نعم يصح الزهد دون التوكل
فإن التوكل مقام وراء الزهد وقال أبو جعفر الحداد وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليها وكان
من المتوكلين أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق كنت أكتسب فى كل يوم دينارا
ولا أبيت منه دانقا ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل
الليل وكان الجنيد لا يتكلم فى التوكل بحضرته وكان يقول أستحى أن أتكلم فى مقامه
وهو حاضر عندى واعلم أن الجلوس فى رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل فإن لم
يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف ولكن
يقوى بالحال والعلم كتوكل المكتسب وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل إليهم فهذا
أقوى فى توكلهم لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقا فهو كدخول السوق ولا
يكون داخل السوق متوكلا إلا بشروط كثيرة كما سبق فإن قلت فما الأفضل أن يقعد فى
بيته أو يخرج ويكتسب فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق
وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس فى
انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئا بل يكون قوى القلب فى الصبر والاتكال على
الله تعالى فالمقصود له أولى وإن كان يضطرب قلبه فى البيت ويستشرف إلى الناس فالكسب
أولى لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب وتركه أهم من ترك الكسب وما كان المتوكلون
يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم كان أحمد بن حنبل قد أمر ابا بكر المروزى أن يعطى
بعض الفقراء شيئا فضلا عما كان استأجره عليه فرده فلما ولى قال له أحمد الحقه وأعطه
فإنه يقبل فلحقه وأعطاه فأخذه فسأل أحمد عن ذلك فقال كان قد استشرفت نفسه فرد فلما
خرج انقطع طمعه وأيس فأخذه وكان الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد فى العطاء أو خاف
اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئا وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه فى أسفاره
رأيت الخضر ورضى بصحبتى ولكنى فارقته خيفة أن تسكن نفسى إليه فيكون نقصا فى توكلى
فإذن المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته كما سبق فى كتاب الكسب وهو أن لا
يقصد به الاستكثار ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلا فإن قلت فما علامة
عدم اتكاله على البضاعة والكفاية فأقول علامته أنه إن سرقت بضاعته أو خسرت تجارته
أو تعوق أمر من أموره كان راضيا به ولم تبطل طمأنينته ولم يضطرب قلبه بل كان حال قلبه
فى السكون قبله وبعده واحدا فإن من لم يسكن إلى شىء لم يضطرب لفقده ومن اضطرب لفقد
شىء فقد سكن إليه وكان بشر يعمل المغازل فتركها وذلك لأن البعادى كاتبه قال بلغنى أنك
استعنت على رزقك بالمغازل أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من فوقع ذلك فى
قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها وقيل تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل
فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسفيان خمسون دينارا يتجر فيها فلما مات عياله
فرقها فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن إليها وهو يعلم أن الكسب بغير
بضاعة لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة
وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل
به إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سببا لفساد
دينه وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعا فينبغى أن يعتقد أن الموت جوعا
خير له فى الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا اعتقد
جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففى الخبر إن العبد ليهم من الليل بأمر
من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه
فيصرفه عنه فيصبح كئيبا حزينا يتطير بجاره وابن عمه من سبقنى من دهانى وما هى إلا
رحمة رحمه الله بها حديث إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله
لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه أبو نعيم فى
الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف على
حاجة من حاجات الدنيا الحديث بنحوه ولذلك قال عمر رضى الله عنه لا أبالى أصبحت غنيا
أو فقيرا فإنى قلبه فأخرج آلة المغازلة من يده وتركها وقيل تركها لما نوهت باسمه وقصد
لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسقيان خمسون دينارا يتجر فيها فلما
مات عياله فرقها فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن غليها وهو يعلم أن الكسب
بغير بضاعة لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم
كثرة وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا
يفعل به إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سببا
لفساد دينه وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعا فينبغى أن يعتقد أن الموت
جوعا خير له فى الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا
اعتقد جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففى الخبر إن العبد ليهم من الليل
بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق
عرشه فيصرفه عنه فيصبح كثيبا حزينا بجاره وابن عمه من سبقنى من دهانى وما هى إلا
رحمة رحمه الله بها حديث غن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله
لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه ابو نعيم فى
الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف على حاجة
من حاجات الدنيا الحديث بنحوه ولذلك قال عمر رضى الله عنه لا أبالى أصبحت غنيا أو
فقيرا فإنى لا أدرى أيهما خير لى ومن لم يتكامل يقينه بهذه الأمور لم يتصور منه
التوكل ولذلك قال أبو سليمان الدارانى لأحمد بن أبى الحوارى لى من كل مقام نصيب
إلا من هذا التوكل المبارك فإنى ما شممت منه رائحة هذا كلامه مع علو قدره ولم ينكر
كونه من المقامات الممكنة ولكنه قال ما أدركته ولعله أراد إدراك أقصاه وما لم يكمل
الإيمان بأن لا فاعل إلا الله ولا رازق سواه وأن كل ما يقدره على العبد من فقر
وغنى وموت وحياة فهو خير له مما يتمناه العبد لم يكمل حال التوكل فبناء التوكل على
قوة الإيمان بهذه الأمور كما سبق وكذا سائر مقامات الدين من الأقوال والأعمال
تنبنى على أصولها من الإيمان وبالجملة التوكل مقام مفهوم ولكن يستدعى قوة القلب
وقوة اليقين ولذلك قال سهل من طعن على التكسب فقد طعن على السنة ومن طعن على ترك
التكسب فقد طعن على التوحيد فإن قلت فهل من دواء ينتفع به فى صرف القلب عن الركون
إلى الأسباب الظاهرة وحسن الظن بالله تعالى فى تيسير الأسباب الخفية فأقول نعم هو
أن تعرف أن سوء الظن تلقين الشيطان وحسن الظن تلقين الله تعالى قال الله تعالى
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا فإن الإنسان بطبعه
مشغوف بسماع تخويف الشيطان ولذلك قيل الشفيق بسوء الظن مولع وإذا انضم إليه الجبن
وضعف القلب ومشاهدة المتكلين على الأسباب الظاهرة والباعثين عليها غلب سوء الظن
وبطل التوكل بالكلية بل رؤية الرزق من الأسباب الخفية أيضا تبطل التوكل فقد حكى عن
عابد أنه عكف فى مسجد ولم يكن له معلوم فقال له الإمام لو اكتسبت لكان أفضل لك فلم
يجبه حتى أعاد عليه ثلاثا فقال فى الرابعة يهودى فى جوار المسجد قد ضمن لى كل يوم رغيفين
فقال إن كان صادقا فى ضمانه فعكوفك فى المسجد خير لك فقال يا هذا لو لم تكن إماما
تقف بين يدى الله وبين العباد مع هذا النقص فى التوحيد كان خيرا لك إذ فضلت وعد يهودى
على ضمان الله تعالى بالرزق وقال إمام المسجد لبعض المصلين من أين تأكل فقال يا شيخ
اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليتها خلفك ثم أجيبك وينفع حسن الظن بمجىء الرزق من
فضل الله تعالى بواسطة الأسباب الخفية أن تسمع الحكايات التى فيها عجائب صنع الله
تعالى فى وصول الرزق إلى صاحبه وفيها عجائب قهر الله تعالى فى إهلاك أموال التجار
والأغنياء وقتلهم جوعا كما روى عن حذيفة المرعشى وقد كان خدم إبراهيم بن أدهم فقيل
له ما أعجب ما رأيت منه فقال بقينا فى طريق مكةأياما لم نجد طعاما ثم دخلنا الكوفة
فأوينا إلى مسجد خراب فنظر إلى إبراهيم وقال يا حذيفة أرى بك الجوع فقلت هو ما رأى
الشيخ فقال علي بدواة وقرطاس فجئت به إليه فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أنت
المقصود إليه بكل حال والمشار إليه بكل معنى وكتب شعرا أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر
أنا جائع أنا ضائع أنا عارى هى ستة وأنا الضمين لنصفها فكن الضمين لنصفها يا بارى
مدحى لغيرك لهب نار خضتها فأجر عبيدك من دخول النار ثم دفع إلى الرقعة فقال اخرج
ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك فخرجت فأول من لقينى
كان رجلا على بغلة فناولته الرقعة فأخذها فلما وقف عليها بكى وقال ما فعل صاحب هذه
الرقعة فقلت هو فى المسجد الفلانى فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار ثم لقيت رجلا
آخر فسألته عن راكب البغلة فقال هذا نصراني فجئت إلى إبراهيم وأخبرته بالقصة فقال
لا تمسها فإنه يجيىء الساعة فلما كان بعد ساعة دخل النصراني وأكب على رأس إبراهيم
يقبله وأسلم وقال أبو يعقوب الأقطع البصرى جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفا
فحدثتني نفسى بالخروج فخرجت إلى الوادى لعلي أجد شيئا يسكن ضعفي فرأيت سلجمة
مطروحة فأخذتها فوجدت في قلبي منها وحشة وكأن قائلا يقول لي جعت عشرة أيام وآخره
يكون حظك سلجمة متغيرة فرميت بها ودخلت المسجد وقعدت فإذا أنا برجل أعجمي قد أقبل
حتى جلس بين يدي ووضع قمطرة وقال هذه لك فقلت كيف خصصتني بها قال إعلم أنا كنا في
البحر منذ عشرة أيام وأشرفت السفينة على الغرق فنذرت إن خلصني الله تعالى أن أتصدق
بهذه على على أول من يقع عليه بصرى من المجاورين وأنت أول من لقيته فقلت افتحها
ففتحتها فإذا فيها سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا
وقلت رد الباقى إلى أصحابك هدية مني إليكم وقد قبلتها ثم قلت في نفسى رزقك يسير
إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي وقال ممشاد الدينورى كان على دين فاشتغل
قلبى بسببه فرأيت في النوم كأن قائلا يقول يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من
الدين خذ عليك الأخذ وعلينا العطاء فما حاسبت بعد ذلك بقالا ولا قصابا ولا غيرهما
وحكى عن بنان الحمال قال كنت في طريق مكة أجيء من مصر ومعى زاد فجاءتني امرأة
وقالت لي يابنات أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك قال فرميت
بزادي ثم أتى على ثلاث لم آكل فوجدت خلخالا في الطريق فقلت في نفسى أحمله حتى يجئ
صاحبه فربما يعطيني شيئا فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لى أنت تاجر تقول
عسى يجيئ صاحبه فآخذ منه شيئا ثم رمت لي شيئا من الدراهم وقالت أنفقها فاكتفيت بها
إلى قريب مكة وحكى أن بنانا احتاج إلى جارية تخدمه فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له
ثمنها وقالوا هو ذا يجيئ النفير فنشترى ما يوافق فلما ورد النفير اجتمع رأيهم على
واحدة وقالوا إنها تصلح له فقالوا لصاحبها بكم هذه فقال إنها ليست للبيع فألحوا
عليه فقال إنها لبنان الحمال أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان وذكرت له
القصة وقيل كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص فقال إن أكلته مت فركل الله
عز وجل به ملكا وقال إن أكله فارزقه وأن لم يأكله فلا تعطه غيره فلم يزل القرص معه
إلى أن مات ولم يأكله وبقى القرص عنده وقال أبو سعيد الخراز دخلت البادية بغير زاد
فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت ثم فكرت في نفسى أني سكنت
واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسى في الرمل
حفرة واريت جسدي فيها إلى صدرى فسمعت صوتا في نصف الليل عاليا يا أهل المرحلة إن
لله تعالى وليا حبس نفسه في هذا الرمل فألحقوه فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى
القرية وروى أن رجلا لازم باب عمر رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول يا هذا هاجرت
إلى عمر أو إلى الله تعالى اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل
وغاب حتى افتقده عمر فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة فجاءه عمر فقال له إنى قد
اشتقت إليك فما الذى شغلك عنى فقال إنى قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر فقال
عمر رحمك الله فماالذي وجدت فيه فقال وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون فقلت
رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض فبكى عمر وقال صدقت فكان عمر بعد ذلك يأتيه
ويجلس إليه وقال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشى في الطريق
إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسى أن أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا
الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر تعالى حتى نسد رأس هذا البئر
لئلا يقع فيه أحد فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر فهممت أن أصيح فقلت في نفسى إلى
من أصيح هو أقرب منهما وسكنت فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر
وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك فتعلقت به فأخرجني فإذا هو
سبع فمر وهتف بي هاتف يا أبا حمزة أليس هذا أحسن نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا
أقول نهانى حيائى منك أن أكشف الهوى وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف تلطفت في أمرى
فأبديت شاهدى إلى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لى بالغيب حتى كأنما تبشرنى بالغيب
أنك في الكف أراك وبي من هيبتي لك وحشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيى محبا أنت
في الحب حتفه وذا عجب كون الحياة مع الحتف وأمثال هذه الوقائع مما يكثر وإذا قوى
الإيمان به وانضم إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع من غير ضيق صدر وقوى الإيمان
بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل ولذلك حبسه عنه
تم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات وإلا فلا يتم أصلا.
تعليقات
إرسال تعليق