انشقاق القمر وحبس الشمس




في انشقاق القمر و حبس الشمس
قال الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 1 ، 2 ] .
أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي ، و إعراض الكفرة عن آياته ، و أجمع المفسرون و أهل السنة على وقوعه .
أخبرنا الحسين بن محمد الحافظ من كتابه ، حدثنا القاضي سراج بن عبد الله ، حدثنا الأصيلي ، حدثنا المروزي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحي ، عن شعبة ، و سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، و فرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشهدوا .
و في رواية مجاهد :و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و في بعض طرق الأعمش : و نحن بمنى .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ الأسود ، و قال : حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر .
و رواه عنه مسروق ـ أنه كان بمكة ـ و زاد : فقال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة !
فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض ، كلها ، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر : هل رأوا هذا ؟ فأتوا ، فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك .
و حكى السمرقندي عن الضحاك نحوه ، و قال : فقال أبو جهل : هذا سحر ، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا : أرأوا ذلك أم لا ؟
فأخبرأهل الآفاق أنهم رأوه منشقاً ، فقالوا ـ يعني الكفار : هذا سحر مستمر .
و رواه أيضاً ـ عن ابن مسعود ـ علقمة ، فهؤلاء أربعة عن عبد الله .
و قد رواه غير ابن مسعود ، كما رواه ابن مسعود ، منهم أنس ، و ابن عباس و ابن عمر ، و حذيفة ، و علي ، و جبير بن مطعم ، فقال علي ـ من رواية أبي حذيفة الأرحبي : انشق القمر و نحن مع النبي صلى الله عليه و سلم .
و عن أنس : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهم .
رواه عن أنس قتادة .
و في رواية معمر و غيره ، عن قتادة ، عنه : أراهم القمر مرتين انشقاقه ، فنزلت : 
اقتربت الساعة وانشق القمر [ سورة القمر / 54 ، الآية : 1 ] .
و رواه عن جبير بن مطعم ابنه محمد و ابن ابنه جبير بن محمد .
و رواه عن ابن عباس عبيد الله بن عبد الله بن عتبة .
و رواه عن ا بن عمر مجاهد ، و رواه عن حذيفة أبو عبدالرحمن السلمي و مسلم بن أبي عمران الأزدي .
و أكثر طرق هذه اللأحاديث صحيحة ، و الآية مصرحة ، و لا يلتفت إلى اعتراض مخذول ، بأنه لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض ، إذ هو شيء ظاهر لجميعهم ، إذ لم ينقل لنا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ، و لو نقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم ـ لكثرتهم ـ على الكذب ، لما كانت علينا به حجة ، إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض ، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين ، و قد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض ، أو يحول بين قوم و بينه سحاب أو جبال ، و لهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ، و في بعضها جزئية ، و في بعضها كلية ، و في بعضها لا يعرفها إلا المدعوون لعلمها ، ذلك تقدير العزيز العليم .
و آية القمر كانت ليلاً ، و العادة من الناس بالليل الهدو و السكون و إيجاف الأبواب ، و قطع التصرف ، و لا يكاد يعرف من أمور السماء شيئاً ، إلا من رصد ذلك ، واهتبل به و لذلك ما يكون الكسوف القمري كثيراًفي البلاد ، و أكثرهم لا يعلم به حتى ينجز ، و كثيراً ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار و نجوم طوالع عظام تظهر في الأحيان بالليل في السماء ، و لا علم عند أحد منها .
و خرج الطحاوي ـ في مشكل الحديث ، عن أسماء بنت عميس من طريقين ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوحي إليه ، و رأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أصليت ياعلي ؟ قال :لا .
فقال : اللهم إنه كان في طاعتك و طاعة رسولك فاردد عليه الشمس .
قالت أسماء : فرأيتها غربت ، ثم طلعت بعد ما غربت ، و وقفت على الجبال و الأرض ، و ذلك بالصهباء في خيبر .
قال و هذان الحديثان ثابتان و رواتهما ثقات .
و حكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن يكون سبيله العلم المتخلف عن حفظ حديث أسماء ، لأنه من علامات النبوة .
و روى يونس بن بكير في زيادة المغازي في روايته عن ابن إسحاق : اما أسري برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أخبر قومه بالرفقة و العلامة التي في العير قالوا : متى تجيء ؟ قال : يوم الأربعاء ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون و قد ولى النهار و لم تجيء ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فزيد له في النهار ساعة ، و حبست عليه الشمس . 

>>>>>>>>>>>>>>
فصل في بيان ما هو من المقالات كفر ، و ما يتوقف أو يختلف فيه ، و ما ليس بكفر اعلم أن تحقيق هذا الفصل و كشف اللبس فيه مورده الشرع ، و لا مجال للعقل فيه ، و الفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله ـ فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، و سائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية أو المانوية و أشباههم من الصائبين و النصارى و المجوس [ 271 ] ، و الذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة ، أو الشياطين ، أو الشمس ، أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب ، و أهل الهند و الصين و السودان و غيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب .  و كذلك القرامطة و أصحاب الحلول و التناسخ من الباطنية و الطيارة من الرافضة و الجناحية و البيانية و الغرابية .  و كذلك من اعترف بإلالهية الله و وحدانيته ، و لكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، و أنه محدث أو مصور ، أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه ، أو مدبراً غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين ، كقول الإلهيين من الفلاسفة و ا لمنجمين و الطبائعيين . و كذلك من ادعى مجالسة الله ، و العروج إليه ، و مكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة و الباطنية ، و النصارى ، و القرامطة .  و كذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة و الدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح و انتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، و تعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها و خبثها . و كذلك من اعترف بالإلهية و الوحدانية ، و لكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، و معظم اليهود و الأروسية من النصارى ، و الغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، و كالمعطلة و القرامطة و الإسماعيلية و العنبرية من الرافضة ، و إن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .  و كذلك من دان بالوحدانية و صحة النبوة ، و نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع ، كالمتفلسفين ، و بعض الباطنية ، و ا لروافض ، و غلاة المتصوفة ، و أصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع ، و أكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان و يكون من أمور الآخرة و الحشر و القيامة ، و الجنة و النار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها و مفهوم خطابها ، و إنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع ، و تعطيل الأوامر و النواهي ، و تكذيب الرسل ، و الإرتياب فيما أتوا به .  و كذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه و سلم تعمد الكذب فيما بلغه و أخبر به ، أو شك في صدقه ، أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ ، أواستخف به ، أو بأحد من الأنبياء ، أو أزرى عليهم ، أو آذاهم ، أو قتل نبياً ، أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .  و كذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيراً أو نبياً من القردة و الخنازير و الدواب و الدود . و يحتج بقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . و فيه من الإزراء على هذا المنصب [ 272 ] المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه ، وتكذيب قائله .  وكذلك نكفر من ا عترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، و بنبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، و ليس الذي كان بمكة و الحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به .  وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، و كالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه و سلم و بعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة و الحجة ، و كالبزيعية و البيانية منهم القائلين بنيوة بزيع و بيان و أشباه هؤلاء . أو من ادعى النبوة لنفسه ، أو جوز اكتسابها و البلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها ، كالفلاسفة و غلاة المتصوفة .  و كذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه و إن لم يدع النبوة ، أو أنه يصعد إلى السماء و يدخل إلى الجنة ، و يأكل من ثمارها ، و يعانق الحور العين ، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه و سلم ، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده . و أخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين ، و أنه أرسل كافة للناس .  و أجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره ، و أن مفهومه المراد منه دون تأويل و لا تخصيص ، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً و سمعاً .  و كذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب ، أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به ، مجمعاً على حمله على ظاهره ، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ، و لهذا نكفر من دان بغيرملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم ، أو شك ، أو صحح مذهبهم ، و إن أظهر مع ذلك الإسلام ، و اعتقده ، و اعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .  و كذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة و تكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم ، إذ لم تقدم علياً . و كفرت علياً ، إذ لم يتقدم و يطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها و نقل القرآن ، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، و إلى هذا ـ و الله أعلم ـ أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة .  ثم كفروامن وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه و سلم على مقتضى قولهم و زعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه و هو يعلم انه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، و صلى الله على رسوله و آله .  و كذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر من كافر و إن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم ، و للشمس و القمر ، و الصليب و النار ، و السعي إلى الكنائس و البيع مع أهلها بزيهم : من شد الزنانير ، و فحص الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا [ الفعل ] لا يوجد [ 273 ] إلا من كافر ، و أن هذه الأفعال علامة على الكفر و إن صرح فاعلها بالإسلام .  و كذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة و بعض غلاة المتصوفة .  و كذلك نقطع بتكفير كل من كذب و أنكر قاعدة من قواعد الشرع ، و ما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول ، و وقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها و سجداتها ، و يقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة ، و كونها خمساً ، و على هذه الصفات و الشروط لا أعلمه ، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي ، و الخبر به عن الرسول صلى الله عليه و سلم خبر و احد .  و كذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، و على تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم .  و قول بعض المتصوفة : إن العبادة و طول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها و إباحة كل شيء لهم ، و رفع عهد الشرائع عنهم .  و كذلك إن أنكر منكر مكة ، أو البيت ، أو المسجد الحرام ، أو صفة الحج ، أو قال : الحج واجب في القرآن ، و استقبال القبلة كذلك ، و لكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة ، أن تلك البقعة هي مكة و البيت و المسجد الحرام ، لا أدري هي تلك أو غيرها ، و لعل الناقلين أن النبي صلى الله عليه و سلم فسرها بهذه التفاسير غلطوا و وهموا ، فهذا و مثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن يظن به علم ذلك ، و ممن يخالط المسلمين ، [ و امتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام ، فيقال له : سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين ] ، فلا تجد بينهم خلافاً ، كافة ًعن كافة ، إلى معاصري الرسول صلى الله عليه و سلم ـ أن هذه الأمور كما قيل لك ، و أن تلك البقعة هي مكة و البيت الذي فيها هو الكعبة ، و القبلة التي صلى لها الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و حجوا إليها ، و طافوا بها ، و ان تلك الأفعال هي صفة عبادة الحج ، و المراد به ، و هي التي فعلها النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و أن صفات الصلاةالمذكورة هي التي فعل النبي صلى الله عليه و سلم ، و شرح مراد الله بذلك ، و أبان حدودها ، فيقع لك العلم كما وقع لهم ، و لا ترتاب بذلك بعد ، و المرتاب في ذلك ، أو المنكر بعد البحث و صحبة المسلمين كافر باتفاق ، لا يعذر بقوله : لا أدري ، و لا يصدق فيه ، بل ظاهره التستر عن التكذيب ، إذ لا يمكن أنه لا يدري .  و أيضاً فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم و الغلط فيما نقلوه من ذلك ، و أجمعوا أنه قول الرسول و فعله و تفسير مراد الله به ـ أدخل الاسترابة في جميع الشريعة ، إذ هم الناقلون لها و للقرآن ، و انحلت عرا الدين كرةً ، و من قال هذا كافر .  و كذلك من أنكرالقرآن ، أو حرفاً منه ، او غيره شيئاً منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية و الإسماعيلي ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه و سلم [ 274 ] ، أو ليس فيه حجة و لا معجزة ، كقول هشام الفوطي ، و معمر الضمري : إنه لا يدل على الله ، و لا حجة فيه لرسوله ، و لا يدل على ثواب و لا عقاب ، و لا حكم ، و لا محالة في كفرهما بذلك القول .  و كذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه و سلم حجة له ، أو في خلق السموات و الأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع و النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم باحتجاجه بهذا كله و تصريح القرآن به .  و كذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن ـ بعد علمه ـ أنه من القرآن الذي في أيدي الناس و مصاحف المسلمين ، و لم يكن جاهلاً به ، و لا قريب عهد بالإسلام ، و احتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ، و لا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذب [ للقرآن ، مكذب ] للنبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه تستر بدعواه .  و كذلك من أنكر الجنة أو النار ، أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، و إجماع الأمة على صحة نقله متواتراً ، و كذلك من اعتراف بذلك ، و لكنه قال : إن المراد بالجنة و النار ، و الحشر و النشر ، و الثواب و العقاب ـ معنى غير ظاهره ، و إنها لذات روحانية، و معان باطنة ، كقول النصارى و الفلاسفة و الباطنية و بعض المتصوفة ، و زعمهم أن معنى القيامة الموت أو فناء محض ، و انتقاض هيئة الأفلاك ، و تحليل العالم ، كقول بعض الفلاسفة .  و كذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم : إن الأئمة أفضل من الأنبياء .  فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار و السير و البلاد التي لا ترجع إلى إبطال شريعة ، و لا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين ، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة ، أو وجود أبي بكر و عمر ، أو قتل عثمان ، و خلافة علي ، مما علم بالنقل ضرورة ، و ليس في إنكاره جحد شريعة ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك ، و إنكاره وقوع العلم له ، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة ، كإنكار هشام و عباد وقعة الجمل ، و محاربة علي من خالفه .  فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين ، و وهم المسلمين أجمع ، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة .  فأما من أنكر الإجماع المجرد الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع فأكثر المتكلمين من الفقهاء و النظار في هذا الباب قالوا بتكفيركل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموماً .  و حجتهم قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونص له جهنم وساءت مصيرا [ سورة النساء / 4 ، الآية : 115 ] .  و قوله صلى الله عليه و سلم : من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . و حكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع .  و ذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع [ الذي يختص بنقله العلماء .  و ذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع ] الكائن عن نظر ، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع ، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به ، خارق للإجماع .  قال القاضي أبو بكر : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده ، و الإيمان بالله [ 275 ] هو العلم بوجوده ، و أنه لا يكفر أحد بقول و لا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله ، فإن عص بقول أو فعل نص الله و رسوله ، أو أجمع المسلمون ، أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك ، فقد كفر ، ليس لأجل قوله أو فعله ، لكن لما يقارنه من الكفر ، فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور : أحدها الجهل بالله تعالى . و الثاني أن يأتي فعلاً أو يقول قولاً يخبر الله و رسوله ، أو يجمع المسلمون ، أن ذلك لا يكون إلا من كافر ، كالسجود للصنم ، و المشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم ، أو أن يكون ذلك القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى .  قال : فهذان الضربان ، وإن لم يكونا جهلاً بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان ، فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية ، أو جحدها مستبصراً في ذلك ، كقوله : ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم ، وشبه ذلط من صفات الكمال الواجبة له تعالى ، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها ، وأعراه عنها .  وعلى هذا حمل قول سحنون : من قال : ليس لله كلام ، فهو كافر ، و هو لا يكفر المتأولين كما قدمناه .  فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ها هنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري و غيره ، و قال به أبو الحسن الأشعري مرة .  و ذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان ، و إليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ، ويراه ديناً وشرعاً وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .  واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما طلب منها التوحيد لا غير ، وبحديث القائل : لئن قدر الله علي ـ وفي رواية فيه : لعلي أضل الله  . ثم قال : فغفر الله له .  قالوا : ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .  وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه ، بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، و لعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفراً .  فأما ما لم يرد شرع فهو من مجوزات العقول ، أو يكون قدر بمعنى ضيق ، و يكون ما فعله إزراء عليها و غضباً لعصيانها .  و قيل : قال ما قاله و هو غير عاقل لكلامه و لا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به .  [ و قيل : كان هذا في زمن الفترة ، و حيث ينفع مجرد التوحيد ] .  و قيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، و معناه التحقيق ، و هو يسمى تجاهل العارف ، و له أمثلة في كلامهم ، كقوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى . و قوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سورة سبأ / 34 ، الآية : 24 ] .  فأما من أثبت الوصف و نفى الصفة فقال : أقول عالم و لكن لا علم له ، و متكلم و لكن لا كلام له . و هكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزل ة [ 276 ] : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، و يسوقه إليه مذهبه ـ كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قوله لهم . و هكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة و القدرية و غيرهم .  و من لم ير أخذهم بمآل قولهم ، و لا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، و نحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، و نعتقد نحن و أنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه .  فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، و إذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك .  و الصواب ترك إكفارهم و الإعراض عن الحتم عليهم بالخسران و إجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم و وراثاتهم ، و مناكحاتهم ، و دياتهم ، و الصلاة عليهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و سائر معاملاتهم ، لكنهم يغلط عليهم بوجيع الأدب ، و شديد الزجر و الهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .  و هذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة و بعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القد ر و رأى الخوارج و الاعتزال ، فما أزاحو لهم قبراً ، و لا قطعوا لأحد منهم ميراثاً ، لكنهم هجروهم و أدبوهم بالضرب و النفي و القتل على قدر أحوالهم ، لأنه فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين و أهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافاً لمن رأى غير ذلك . و الله الموفق للصواب . قال القاضي أبو بكر و أما مسائل الوعد و الوعيد ، و الرؤية و المخلوق ، و خلق الأفعال ، و بقاء الأعراض ، و التولد و شبهها من الدقائق ـ فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله تعالى ، و لا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئاً منها .  و قد قدمنا في الفصل قبله من الكلام و صورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى .

تعليقات