كيف تعالج الرياء

بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق 603;ثير الطمع فيهم فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه وإنما يشعر بكونه مهلكا بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ولكنها تشق أولا وتخف آخرا وفي علاجه مقامان أحدهما قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه والثاني دفع ما يخطر منه في الحال المقام الأول في قلع عروقه واستئصال أصوله وأصله حب المنزلة والجاه وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة والفرار من ألم الذم والطمع فيما في أيدي الناس ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبو موسى أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل حديث أبي موسى أن أعرابيا قال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية الحديث متفق عليه حمية ومعناه أنه يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب وقال والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب والرجل يقاتل للذكر وهذا هو الحمد باللسان فقال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال ابن مسعود إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم فلان يقاتل للذكر وفلان يقاتل للملك والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا وقال عمر رضي الله عنه يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا وقال صلى الله عليه وسلم من غزا لا يبغي إلا عقالا فله ما نوى حديث من غزا لا يبغي إلا عقالا فله ما نوى أخرجه النسائي وقد تقدم فهذا إشارة إلى الطمع وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل �6;ين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل وهو ليس يطمع في الحمد وقد سبقه غيره وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفا من الذم وهو لا يطمع في الحمد وقد هجم غيره على صف القتال ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل ويفتي بغير علم ويدعي العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذرا من الذم فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ إما في الحال وإما في المآل فإن علم إنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر حيث ينادى على رؤوس الخلائق يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقربت إليهم بالبعد من الله وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من الله فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأ93;مال مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به ويهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين وقد حط عنهم بسبب الرياء رد إلى صف النعال من مراتب الأولياء هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضي به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضا عليه ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمدهم رزقا ولا أجلا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منثه ومذلته وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتبه عليه الله ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ولا يبغضه إلى الله إن كان محمودا عند الله ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت ذاك الله الذي لا إله إلا هو حديث قال شاعر من بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال كذبت ذاك الله أخرجه أحمد من حديث الأقرع بن حابس وهو قائل ذلك دون قوله كذبت ورجاله ثقات إلا أني لا أعرف لأبي سلمة بن عبد الرحمن سماعا من الأقرع ورواه الترمذي من حديث البراء وحسنه بلفظ فقال رجل إن حمدي إذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه فأي خير لك في مدح الناس وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة وسقط محل الخلق من قلبه وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا تنازعنه النفس إلى طلب علم غير الله به وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه لا تجالسنا بعد هذا فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء للرياء مثل الإخفاء وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عل10;ه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما المقام الثاني في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضا فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات بل يعارضه بخطرات الرياء ولا تنقطع عنه نزعاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء وخواطر الرياء ثلاثة قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج فالأول العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه فالأول معرفة والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال مالك وللخلق علموا أو لم يعلموا والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور المعرفة والكراهة والإباء وقد يشرع ال93;بد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطويا عليها وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظا يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب وإليه أشار جابر بقوله بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حديث جابر بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر الحديث أخرجه مسلم مختصرا دون ذكر يوم حنين فرواه مسلم من حديث العباس حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة هكذا تكون إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة وقد يتذكر الإنسان فيعلم أن الخاطر الذي خطر له هو خاطر الرياء الذي يعرضه لسخط الله ولكن يستمر عليه لشدة شهوته فيغلب هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموما عند الله ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة وهذا أيضا لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث وهي المعرفة والكراهة والإباء فالإباء ثمرة الكراهة والكراهة ثمرة المعرفة وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة وبعض ذلك ينتج بعضا ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب وألسنة وأنوار العلوم فإن قلت فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في آداء ما كلف به ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال صلى الله عليه وسلم أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان حديث شكوى الصحابة ما يعرض في قلوبهم وقوله ذلك صريح الإيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود مختصرا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال ذلك محض الإيمان والنسائي في اليوم الليلة وابن حبان في صحيحه ورواه النسائي فيه من حديث عائشة ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيما فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه ق;ال الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة حديث ابن عباس الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بلفظ كيده وقال أبو حازم ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصانا في منزلته عند الله والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب الأولى أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك الثانية أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته الثالثة أن لا يشتغل بتكذيبه أيضا لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحبا للكراهة غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة الرابعة أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء فيكون قد عزم على أنه مهما نزع الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظا للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع يروي عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلانا يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل ومن أمره قال الشيطان اللهم اغفر له أي لأغيظنه بأن أطع الله فيه ومهما عرف الشيطان من عبد هذه; العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيرا فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضا إذا رآك الشيطان مترددا طمع فيك وإذا رآك مداوما ملك وقلاك وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالا أحسن فيه فقال مثالهم كأربعة قصدوا مجلسا من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلا وهداية ورشدا فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتغل بالقتال واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان فخال منه رجاؤه بالكلية فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله فإن قلت فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظارا لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه قلنا اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة به;م إلى الحذر وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف يستحي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر وقالت فرقة من أهل العلم لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غرورا إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي ي حديث إنه ليغان على قلبي تقدم مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير حديث إن شيطانه أسلم فلا يأمر إلا بخير تقدم أيضا فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلى عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار والدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال عز وجل إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره 578;حذير من الشيطان فكيف يدع الأمن منه وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله فإن من الحب له امتثال أمره وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله الإعراض عما حذر الله وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا وقال قوم إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض  5;ن حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى وقال العلماء المحققون غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له وعند التنبه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي يقوى على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحذر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر العدو واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جاريا إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر والبصير هو الذي جعل 604;مجرى الماء القذر سدا وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب.