حكم من سب النبى


الباب الأول : في بيان ما هو ـ في حقه صلى الله عليه و سلم ـ سب أو نقص ، من تعريض أو نص
اعلم ـ وفقنا الله و إياك ـ أن جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، و العيب له ، فهو ساب له ، و الحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، و لا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، و لا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً . و كذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر ، و منكر من القول و زور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء و المحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهودة لديه .
و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جراً .
و قال أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل ، و ممن قال ذلك مالك بن أنس ، و الليث ، و أحمد ، و إسحاق ، و هو م ذهب الشافعي .
قال القاضي أبو الفضل : و هو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و لا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين :
و بمثله قال أبو حنيفة ، و أصحابه ، و الثوري و أهل الكوفة ، و الأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة .
روى مثله الوليد بن مسلم عن مالك .
و حكى الطبري مثله عن أبي حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه و سلم ، أو برئ منه أو كذبه .
و قال سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .
و على هذا وقع الخلاف في استتابته و تكفيره ، و هل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى ، و لا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار و سلف الأمة ، و قد ذكر غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره ، و أشار بعض الظاهرية ـ و هو أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به .
و المعروف ما قدمناه ، قال محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم المتقص له كافر . و الوعيد جار عليه بعذاب الله ، و حكمه عند الأمة القتل ، و من شك في كفره و عذابه كفر .
و احتج إبراهيم بن حسين بن خالد الفق يه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله ـ عن النبي صلى الله عليه و سلم صاحبكم .
و قال أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلماً .
و قال ابن القاسم ـ عن مالك في كتاب ابن سحنون ، و المبسوط ، و العتبية ، و حكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل ، و لم يستتب .
قال ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، و حكمه عند الأمة القتل كالزنديق .
و قد فرض الله تعالى توقيره و بره . و في المبسوط ـ عن عثمان بن كنانة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل أو صلب حياً و لم يستتب و الإمام مخير في صلبه حياً أو قتله .
و من رواية أبي المصعب ، و ابن أبي أويس : سمعنا مالكاً يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو شتمه ، أو عابة ، أو تنقصه ـ قتل مسلماً كان أو كافراً ، و لا يستتاب .
و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و قال أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو ظهره ، و لا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف .
و قال عبد الله بن الحكم : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و حكى الطبري مثله عن أشهب ، عن مالك .
و روى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم ـ و يروى زر النبي صلى الله عليه و سلم ـ وسخ ، أراد عيبه ـ قتل .
قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه ـ أنه يقتل بلا استتابة .
و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه و سلم : الحمال يتيم أبي طالب [ 242 ] ـ بالقتل .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه و لحيته . قال : و لا تقبل توبته .
و قد كذب ـ لعنه الله ، و ليس يخرج من قلب سليم الإيمان .
و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان أسود يقتل .
و قال في رجل قيل له : لا ، و حق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا و كذا ـ و ذكر كلاماً قبيحاً ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان للذي سأله : اشهد عليه و أنا شريكك ـ يريد في قتله و ثواب ذلك .
قال حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل ، لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .
وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشار ، قال لرجل : أد واشك إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : إن سألت أو جعلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه و سلم ـ بالقتل .
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي و صلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه و سلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، و زعمه أن زهده لم يكن قصداً ، و لو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .
و أفتى فقهاء القيروان و أصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، و كان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، و كان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه و سلم ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .
وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، و زالت عنها الأيدي استدارت ، و حولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، و كبر الناس ، و جاء كلب فولغ في دمه ، فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثاً عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يلغ الكلب في دم مسلم .
و قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم هزم يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .
و قال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك و أصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه و سلم : ما فيه نقص ـ قتل دون استتابة .
و قال ابن عتاب : الكتاب و السنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ، و إن قل ـ فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، و إن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه [ 243 ] و نبيه بعد .
و كذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .
و قد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، و يأتي ما يدل عليه .

فصل
في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه و سلم
فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذ به في الدنيا و الآخرة ، و قرانه تعالى أذاه بأذاه ، و لا خلاف في قتل من سب الله ، و أن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، و حكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] .
و قال ـ في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 60 ، 61 ] .
و قال ـ في المحاربين ، و ذكر عقوبتهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 33 ] .
و قد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : قتل الخراصون . و قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أي لعنهم الله ، و لأنه فرق بين أذاهما و أذى المؤمنين ، و في أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب و النكال ، فكان حكم مؤذي الله و نبيه أشد من ذلك ، و هو القتل . و قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 65 ] .
فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجاً من قضائه ، و لم يسلم له ، و من تنقضه فقد ناقض هذا .
و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] .
و لا يحبط العمل إلا الكفر ، و الكافر يقتل .
و قال تعالى : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [ سورة المجادلة / 58 ، الآية : 8 ] .
و قال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] .
و قال تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 65 ، 66 ] .
قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أما الإجماع فقد ذكرناه .
و أما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، و أبو عمر ابن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من سب نبينا فاقتلوه ، و من سب أصحابي فاضربوه .
و في الحديث الصحيح : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل كعب ابن الأشرف . و قوله : من لكعب بن الأشرف ! فإنه يؤذي الله و رسوله . و وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، و علل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى .
و كذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : و كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يعين عليه .
و كذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل [ 244 ] و جاريته اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه و سلم .
و في حديث آخر أن رجلاً كان يسبه ـ صلى الله عليه و سلم ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه صلى الله عليه و سلم فقتله .
و كذلك لم يقل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار و يسبه ، كالنضر بن الحارث ، و عقبة بن أبي معيط .
و عهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح و بعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .
و قد روى البزار ، عن ابن عباس ـ أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، مالي أقتل من بينكم صبراً ! فقال له صلى الله عليه و سلم : بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و ذكر عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه و سلم سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .
و روى أيضاً أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : فقال : من يكفيني عدوي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها .
و روى أن رجلاً كذب على النبي صلى الله عليه و سلم ، فبعث علياً و الزبير إليه ليقتلاه .
و روى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى النبي صل ى الله عليه و سلم ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولاً قبيحاً فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم .
و بلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها ، و نزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود . و عن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان .
و عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه ، فقتلها ، و أعلم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك ، فأهدر دمها .
و في حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوماً جالساً عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين ـ و حكى القاضي إسماعيل و غير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر .
و رواه النسائي : أتيت أبا بكر ، و قد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال القاضي أبو محمد بن نصر : و لم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه و سلم بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه .
و من ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، و قد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمن سبه [ 245 ] فقد حل دمه .
و سأل الرشيد مالكاً في رجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، و قال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، و من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جلد .
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك و مؤلفي أخباره و غيرهم ، و لا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! و قد ذكرنا مذهب العراقيين يقتله ، و لعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع و تاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، و إلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .
و يدل على قتله من جهة النظر و الاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه و سلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، و برهان سر طويته و كفره ، و لهذا ما حكم له كثير من العلمء بالردة ، و هي رواية الشاميين عن مالك و الأوزاعي ، و قول الثوري ، و أبو حنيفة ، و الكوفيين .
و القول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حداً ، و إن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متمادياً على قوله ، غير منكر له ، و لا مقلع عنه ، فهذا كافر ، و قوله : إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه ، أو من كلمات الاستهزاء و الذم ، فاعترافه بها و ترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، و هو كفر أيضاً ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 74 ] .
قال أهل التفسير : هي قول هم : إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير .
و قيل : قول بعضهم : ما مثلنا و مثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل .
و قد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستتراً به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، و لأنه قد غير دينه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : من غير دينه فاضربوا عنقه ، و لأن لحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الحرمة مزية على أمته ، و ساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله عليه و سلم القتل ، لعظيم قدره ، و شفوف منزلته على غيره .

تعليقات